أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 آخر المقالات

بوصلة الدب الروسي: لماذا تغير موسكو اتجاهها نحو المغرب في قضية الصحراء؟

في عالم الدبلوماسية، لا توجد كلمات تُلقى على عواهنها. كل مصطلح يتم اختياره بعناية فائقة، وكل عبارة تحمل وراءها دلالات استراتيجية عميقة. هذا ما ينطبق تمامًا على التصريحات الأخيرة الصادرة عن موسكو بخصوص نزاع الصحراء، والتي يراها المحللون بمثابة "انزياح استراتيجي" هادئ ومدروس في الموقف الروسي، يقترب أكثر من أي وقت مضى من الرؤية المغربية.

خلفية التحول: ما الذي تغير؟

لعقود طويلة، حافظت روسيا على موقف يميل إلى الحياد الحذر في قضية الصحراء، غالبًا ما كان يُفسر على أنه أقرب إلى دعم الأطروحات التقليدية. لكن تصريحات وزير الخارجية المخضرم، سيرغي لافروف، خلال لقائه بنظيره المغربي، ناصر بوريطة، والتي شدد فيها على ضرورة التوصل إلى "حل واقعي ومتوازن ومقبول من جميع الأطراف"، كانت بمثابة إشارة واضحة على تغير في لغة الكرملين الدبلوماسية.

هذه الصياغة ليست مجرد ترديد للغة الأمم المتحدة، بل هي اقتراب ضمني من جوهر المبادرة المغربية للحكم الذاتي، التي يصفها مجلس الأمن نفسه بأنها "ذات مصداقية وواقعية". فما هي المحركات الحقيقية وراء هذا التحول؟

محركات التغيير: قراءة في الأسباب العميقة

لا يمكن قراءة الموقف الروسي الجديد بمعزل عن سياق أوسع من التحولات الجيوسياسية والمصالح الاستراتيجية التي باتت تربط موسكو بالرباط. يمكن تلخيص هذه المحركات في ثلاث نقاط رئيسية:

1. الشراكة الاستراتيجية المعمقة

منذ الزيارة الملكية التاريخية للملك محمد السادس إلى موسكو، دخلت العلاقات المغربية-الروسية مرحلة جديدة من التعاون الاستراتيجي. هذه الشراكة لم تعد تقتصر على الصيد البحري والفلاحة، بل امتدت لتشمل مجالات حيوية وحساسة مثل:

  • الطاقات المتجددة والأمن الطاقي.
  • التعاون الأمني والاستخباراتي في مواجهة التحديات الإقليمية.
  • التنسيق في القضايا الإفريقية، حيث يُعتبر المغرب لاعبًا محوريًا ومستقرًا في منطقة شمال وغرب إفريقيا.

بالنسبة لروسيا، المغرب ليس مجرد شريك تجاري، بل هو بوابة استراتيجية نحو إفريقيا والمحيط الأطلسي، وحليف وازن يساهم في تحقيق الاستقرار الإقليمي.

2. الواقعية الدولية ومنطق مجلس الأمن

بصفتها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن، تدرك روسيا جيدًا أن الديناميكية الدولية حول ملف الصحراء قد تغيرت. الدعم الدولي المتزايد للمبادرة المغربية من قبل قوى كبرى مثل الولايات المتحدة، إسبانيا، ألمانيا، وفرنسا، خلق واقعًا جديدًا على الأرض.

"الاعتراف الضمني حاصل بالفعل، والاعتراف الصريح ليس سوى مسألة توقيت، مرتبط بميزان القوى الإقليمي والدولي." - بوسلهام عيسات، باحث في الدراسات السياسية.

من خلال تبني خطاب "الواقعية"، تضع موسكو نفسها في قلب الإجماع الدولي وتفتح لنفسها هوامش أكبر للتأثير في الملف، بدلاً من التمسك بمواقف متجاوزة قد تعزلها عن اللاعبين الرئيسيين. للمزيد من المعلومات، يمكن مراجعة قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بهذا الخصوص.

3. تغير الخارطة الجيوسياسية

إن نجاح الدبلوماسية المغربية النشطة في إخراج قوى دولية كبرى من منطقة "الحياد السلبي" إلى "الدعم الإيجابي" لم يمر مرور الكرام في موسكو. روسيا، التي تسعى لتعزيز نفوذها كقوة عالمية، لا تريد أن تترك الساحة فارغة لمنافسيها الغربيين في منطقة ذات أهمية استراتيجية كشمال إفريقيا.

اقترابها من الموقف المغربي هو أيضًا رسالة سياسية بأن موسكو لاعب прагмати، يتفاعل مع الحقائق على الأرض، ومستعد لبناء شراكات مع القوى الصاعدة والمستقرة في المنطقة.

ماذا يعني هذا التحول للمغرب؟

هذا الموقف الروسي، وإن كان لا يزال في مرحلة "الحياد الإيجابي" ولم يصل إلى اعتراف صريح، يمثل إنجازًا دبلوماسيًا كبيرًا للمغرب. إنه يعزز من شرعية المبادرة المغربية على الساحة الدولية ويضيق الخناق على خصوم الوحدة الترابية، كما يؤكد أن منطق الواقعية والمصداقية الذي بنى عليه المغرب مقاربته هو السبيل الوحيد للوصول إلى حل نهائي ومستدام.

نظرة نحو المستقبل

قد لا نشهد اعترافًا روسيًا كاملاً ومباشرًا في المدى القصير، فموسكو تفضل دائمًا التحرك المدروس الذي يوازن مصالحها المتعددة. لكن ما هو مؤكد أن البوصلة الروسية قد بدأت بالفعل في تغيير اتجاهها. لم تعد تنظر إلى الشمال الإفريقي عبر عدسات الحرب الباردة، بل من خلال منظور المصالح الاستراتيجية والواقعية السياسية، وفي هذا المنظور الجديد، يبرز المغرب كشريك لا يمكن الاستغناء عنه.

تعليقات