في ساحة العلاقات الدولية المعقدة، لم يعد الصوت العالي هو الأكثر تأثيرًا، بل أصبحت التحركات المدروسة والشراكات الذكية هي ما يحدد وزن الدول الحقيقي. هذا هو جوهر "الدبلوماسية المغربية النشطة"، وهي استراتيجية متعددة الأبعاد، يقودها الملك محمد السادس، حولت المغرب من مجرد لاعب إقليمي إلى قوة محورية صاعدة، قادرة على التأثير في موازين القوى من واشنطن إلى موسكو.
تعريف الدبلوماسية النشطة: ما وراء الشعارات
الدبلوماسية المغربية النشطة ليست مجرد ردود أفعال على الأحداث، بل هي نهج استباقي يقوم على ثلاثة مبادئ أساسية:
- الوضوح والطموح: تحديد المصالح الوطنية العليا بوضوح، وعلى رأسها قضية الصحراء المغربية، والعمل على تحقيقها بثقة وطموح.
- تنوع الشراكات: تجاوز التحالفات التقليدية وبناء علاقات متوازنة مع القوى العالمية الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة، أوروبا، روسيا، والصين.
- الواقعية والمصداقية: تقديم حلول عملية وموثوقة للقضايا الإقليمية، مما أكسب المغرب احترام وتقدير شركائه الدوليين.
هذا النهج هو الذي نجح في "إخراج روسيا والصين من منطقة الحياد السلبي"، وتحويل مواقف دول أوروبية كبرى، مما يمثل إنجازًا دبلوماسيًا هامًا.
ملف الصحراء: قصة نجاح دبلوماسي بامتياز
تعتبر قضية الصحراء المغربية المثال الأبرز على فعالية هذا النهج الدبلوماسي. فبدلاً من الاكتفاء بالدفاع، انتقل المغرب إلى الهجوم الدبلوماسي البنّاء، مقدماً مبادرة الحكم الذاتي كحل "واقعي وذي مصداقية".
تحييد الخصوم وكسب الحلفاء
نجحت الرباط في تحقيق اختراقات تاريخية غيرت مسار النزاع:
- الاعتراف الأمريكي: شكل اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بسيادة المغرب على صحرائه نقطة تحول كبرى، عززت من موقف المملكة بشكل غير مسبوق.
- تغير الموقف الأوروبي: قامت دول وازنة مثل إسبانيا وألمانيا وفرنسا بدعم المبادرة المغربية، معتبرة إياها الأساس الأكثر جدية لحل النزاع.
- الانفتاح على روسيا: مؤخرًا، بدأت موسكو في تبني لغة أكثر واقعية، حيث شدد وزير خارجيتها سيرغي لافروف على ضرورة حل "واقعي ومتوازن ومقبول من جميع الأطراف"، وهو ما يُقرأ كاقتراب من الطرح المغربي. هذا التحول مدفوع بعمق الشراكة الاستراتيجية التي تربط البلدين في مجالات حيوية كالأمن والطاقة.
"نجاح الدبلوماسية المغربية في إخراج روسيا من منطقة الحياد السلبي إلى منطقة الحياد الإيجابي، بالإضافة إلى الدعم الذي تلقاه من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، يعد إنجازًا هاما." - حسن بلوان، باحث في العلاقات الدولية.
أبعاد أخرى للدبلوماسية النشطة
نفوذ المغرب لا يقتصر على ملف الصحراء. فالرباط أصبحت شريكًا لا غنى عنه في عدة قضايا إقليمية ودولية:
- مكافحة الإرهاب: يعتبر المغرب حليفًا استراتيجيًا لأوروبا والولايات المتحدة في مجال الأمن ومشاركة المعلومات الاستخباراتية.
- بوابة إفريقيا: بفضل استقراره ورؤيته الاقتصادية، أصبح المغرب منصة رئيسية للاستثمارات الدولية الموجهة نحو القارة الإفريقية.
- الأمن الطاقي: يلعب المغرب دورًا متزايد الأهمية في مجال الطاقات المتجددة، مما يجعله شريكًا حيويًا لأوروبا في سعيها لتنويع مصادر الطاقة.
هذه الأدوار المتعددة تعزز من "وزن" المغرب على الساحة الدولية وتمنحه أوراق قوة إضافية في مفاوضاته الدبلوماسية.
دبلوماسية هادئة بنتائج مدوية
الدبلوماسية المغربية النشطة هي نموذج للعمل الاستراتيجي بعيد المدى. إنها لا تعتمد على الضجيج، بل على بناء الثقة، وتنويع التحالفات، وتقديم حلول واقعية. من خلال هذا النهج، لم ينجح المغرب فقط في تعزيز موقفه في قضيته الوطنية الأولى، بل رسخ مكانته كقوة استقرار إقليمية وكشريك دولي موثوق به، ترسم بهدوء وثقة خريطة نفوذها في عالم متغير.