لم تكن شمس العاشر من يوليو عام 1971 شمساً عادية فوق شاطئ الصخيرات. كانت تحمل في خيوطها الذهبية وهج احتفال وبهجة، احتفال بعيد الميلاد الثاني والأربعين للملك الحسن الثاني. في القصر الملكي الصيفي، اجتمع نخبة المجتمع: وزراء، سفراء، جنرالات، وفنانون. كانت رائحة الشواء تمتزج بعبق الياسمين، وضحكات الضيوف تختلط بصوت أمواج المحيط الأطلسي الهادئة. لم يكن أحد يعلم أن هذا الهدوء هو الغطاء الرقيق الذي يخفي تحته بركاناً من الدم والنار على وشك الانفجار.
الهدوء الذي سبق العاصفة: تفاصيل من قلب الحدث
كان الملك الحسن الثاني يتجول بين ضيوفه، يتبادل الأحاديث والابتسامات. كان المشهد سريالياً في بساطته وفخامته. الأجواء كانت مريحة لدرجة أن بعض الضيوف، ومنهم السفير البلجيكي، خلعوا ستراتهم الرسمية. كان كل شيء يسير وفق ما هو مخطط له، احتفال ملكي تقليدي تحت سماء المغرب الصافية. لكن في ثكنة أهرمومو العسكرية، على بعد مئات الكيلومترات، كان هناك مخطط آخر يُحاك، مخطط شيطاني سيُكتب بالرصاص والدم.
دوي الرصاص الأول: بداية الجحيم
في تمام الساعة الثانية وعشر دقائق بعد الظهر، وبينما كان الجميع يستمتع بوقته، سُمع صوت إطلاق نار كثيف ومفاجئ. في البداية، ظن الكثيرون أنها ألعاب نارية، جزء من الاحتفال. لكن سرعان ما تحول هذا الظن إلى يقين مرعب. كانت شاحنات عسكرية تقتحم أسوار القصر، ويترجل منها مئات التلاميذ الضباط وهم يطلقون النار بعشوائية على كل من يتحرك. تحول الفردوس إلى جحيم في لحظات. سقط الضيوف مضرجين بدمائهم بين أطباق الطعام وكؤوس الشراب. كان الهجوم مباغتاً، وحشياً، وفوضوياً.
قاد الهجوم الكولونيل أمحمد أعبابو، مدير مدرسة أهرمومو، بإيعاز من العقل المدبر، الجنرال محمد المذبوح، مدير البيت العسكري للملك. لقد أوهموا التلاميذ الضباط بأنهم ذاهبون لحماية الملك من هجوم ثوري، بينما كانوا في الحقيقة أدوات لتنفيذ الانقلاب.
شهادات ومواجهات
في خضم هذه الفوضى، برزت قصص ومواجهات لا يمكن للعقل تصديقها، وهي التي شكلت جوهر هذه المأساة وبصيص النجاة فيها.
مواجهة الملك
وسط إطلاق النار، وبينما كان الملك محاصراً مع عدد من وزرائه ومقربيه، منهم أحمد الدليمي ومحمد أوفقير الذي سيصبح لاحقاً بطل انقلاب آخر، حدثت تلك المواجهة التي ترويها بعض الشهادات. خرج شاب من المهاجمين، لم يكن معروفاً، بسيط الملامح، وتقدم من الملك مباشرة وهو يرفع سلاحه. لم يكن هناك حراس، فقط الملك وجهاً لوجه مع من أتى لقتله.
تروي الروايات أن الشاب نظر في عيني الملك مباشرة، وفي تلك اللحظة التي تجمد فيها الزمن، لم يظهر الحسن الثاني أي خوف. بل نظر إليه بهيبة أسطورية وسأله بهدوء: "ماذا تريد؟". ارتبك الشاب، اهتزت يداه، وكأنه لم يكن يتوقع أن يرى جلالة الملك رحمه الله بهذا الثبات. هذه اللحظة، التي استمرت ثوانٍ معدودة، كانت كافية لكسر إرادة المهاجم، الذي تراجع وترك الملك، ليغير بذلك مسار التاريخ.
الرقيب محجوب: المنقذ الغامض؟
تضيف شهادات أخرى شخصية محورية أخرى في هذه الدراما، وهو رقيب يدعى محجوب. يُقال إنه بعد أن سيطر المهاجمون على القصر، كان هذا الرقيب هو من توجه إلى المكان الذي كان يختبئ فيه الملك. وبدلاً من أن يجهز عليه، قام بأداء التحية العسكرية له، وقاده إلى مكان آمن، بل وساهم في إقناع باقي الجنود بأن الملك لا يزال حياً وأنهم تعرضوا للخداع. دور هذا الرقيب، إن صحت الروايات، كان نقطة التحول التي قلبت الموازين لصالح الملك.
نقطة التحول: مناورة الملك التي غيرت كل شيء
بعد السيطرة على الصدمة الأولى، أدرك الحسن الثاني أن نجاته تكمن في ذكائه ودهائه وليس في قوة السلاح. عندما وجد نفسه محاصراً مع الانقلابيين، وقف بينهم وبدأ بتلاوة سورة الفاتحة والشهادتين بصوت عالٍ وواضح. كان لهذه الخطوة وقع السحر على الجنود، الذين كانوا شباناً بسطاء ومتدينين. كيف لهم أن يقتلوا ملكاً يتلو القرآن؟
بهذه المناورة النفسية العبقرية، تمكن الملك من كسب الوقت وزرع الشك في صفوف المهاجمين. استطاع إقناعهم بأنه معهم ضد "الثورة الوهمية"، وأمرهم بوقف إطلاق النار. لقد حول نفسه من هدف إلى قائد في لحظات، وهو ما أربك قادة الانقلاب وأفشل مخططهم بالكامل.
ما بعد الصدمة: مملكة على وقع الرصاص
انتهت محاولة الانقلاب بمقتل قادته الرئيسيين، المذبوح وأعبابو، واعتقال المئات من المشاركين. لكن المغرب لم يعد كما كان. لقد كشف هذا اليوم عن عمق الولاءات والخيانات داخل المؤسسة العسكرية. تبعت المحاولة محاكمات سريعة وإعدامات، لكن العقاب الأبشع كان من نصيب الناجين من الضباط الذين تم إرسالهم إلى المعتقل السري الرهيب "تزممارت"، حيث قضوا سنوات طويلة في ظروف لا إنسانية.
لقد نجح الحسن الثاني في البقاء على عرشه، لكن ثمن النجاة كان باهظاً. تغيرت نظرته لمن حوله، وازدادت قبضته الأمنية، ودخل المغرب حقبة جديدة عُرفت بـ"سنوات الرصاص". لقد ترك انقلاب الصخيرات ندبة عميقة في جسد التاريخ المغربي، ندبة لا تزال تروي قصة يوم اختلط فيه الموت بالحياة، والولاء بالخيانة، تحت شمس الصخيرات الحارقة.
مصادر للاستزادة:
- كتاب "صديقنا الملك" (Notre ami le roi) للكاتب الفرنسي جيل بيرو.
- شهادات أحمد المرزوقي في كتابه "تزممارت: الزنزانة رقم 10".
- مقابلات وشهادات لناجين من الحدث نشرت في أرشيف الصحافة المغربية والدولية.
- كتاب "كان ذاك المغرب" (C'était le Maroc) للصحفي الإسباني خوسيه لويس دي فيلالونغا.