لعقود طويلة، سادت روايات تاريخية تربط أصل الأمازيغ، أو "الرجال الأحرار"، بهجرات قادمة من المشرق، فتارة من كنعان بعد الحروب، وتارة من اليمن بعد انهيار سد مأرب. لكن، هل تصمد هذه النظريات أمام الحقائق العلمية الدامغة؟
في عصرنا الحالي، لم يعد تحديد أصول الشعوب يعتمد على الروايات التاريخية المتداولة فقط. لقد حسم العلم الحديث، وتحديداً علم الوراثة (الجينات) وعلم الآثار، الجدل ليكشف حقيقة راسخة: جذور الأمازيغ الحقيقية ضاربة في أعماق أرض شمال إفريقيا، وأن "نظرية الأصل المشرقي" ليست سوى تفسير لاحق لا تدعمه الأدلة الجينية.
دعنا نغوص في الأدلة العلمية التي تعيد كتابة القصة الحقيقية للسكان الأصليين لشمال إفريقيا.
العلم يحسم الجدل: ماذا يكشف الحمض النووي والآثار؟
ترتكز الحجج العلمية الحديثة على ثلاثة أعمدة رئيسية: الجينات، الآثار، واللغة. وكلها تشير إلى نتيجة واحدة: الأصالة في شمال إفريقيا.
1. الدليل الجيني (E-M81): البصمة التي لا تكذب
يُعتبر علم الوراثة الدليل الأقوى. الدراسات الجينية تُظهر أن المكون الوراثي السائد لدى الأمازيغ هو "أصلي" (Autochthonous) في شمال إفريقيا.
- الهابلوغروب E-M81: العلامة الجينية (لدى الذكور) الأكثر شيوعاً بشكل ساحق بين الأمازيغ هي E-M81. المفاجأة؟ يُعتقد أن هذا الهابلوغروب قد نشأ في شمال إفريقيا نفسها قبل حوالي 14,000 سنة. هذا الدليل ينسف فكرة الهجرة الجماعية الحديثة من المشرق.
- جذور أعمق: صحيح أن E-M81 هو فرع من سلالة أقدم (E-M35) يُعتقد أنها نشأت في شرق إفريقيا، لكننا نتحدث هنا عن هجرات حدثت قبل عشرات آلاف السنين، وشكلت النواة الأولى لسكان شمال إفريقيا، قبل وجود الكنعانيين أو الحميريين بآلاف السنين.
- التعريب كثقافة لا كجينات: أثبتت الدراسات أن "التعريب" في شمال إفريقيا كان عملية لغوية وثقافية ودينية هائلة، ولكنه لم يكن استبدالاً سكانياً. غالبية سكان شمال إفريقيا اليوم، حتى الناطقين بالعربية، يحملون نفس المكون الجيني الأمازيغي الأصلي.
2. الدليل الأثري: بصمات الحضارة القبصيّة
يُظهر علم الآثار وجوداً بشرياً مستمراً في شمال إفريقيا لمئات آلاف السنين.
تُعتبر "الحضارة القَبصيّة" (Capsian Civilization)، التي ظهرت منذ حوالي 10,000 سنة (في تونس والجزائر حالياً)، من الحضارات الرئيسية التي يُنسب إليها الأجداد المباشرون للأمازيغ.
هذه الحضارة، بالإضافة إلى الرسوم الصخرية المذهلة في "طاسيلي ناجر" بالجزائر، تُظهر مجتمعات متطورة عاشت وتطورت في شمال إفريقيا، وهي جزء لا يتجزأ من تاريخ الأمازيغ القديم، قبل أي هجرات مزعومة من المشرق.
3. الدليل اللغوي: جذور "تمازيغت" الأفروآسيوية
اللغة الأمازيغية (تمازيغت)، بلهجاتها المتعددة، هي لغة قائمة بذاتها وتمتلك أبجديتها الخاصة والقديمة "تيفيناغ". هذا التصنيف يدعم فكرة وجود أصل مشترك قديم جداً لهذه الشعوب، ربما في شرق إفريقيا أو الشرق الأدنى، قبل أن تتفرق وتتطور بشكل مستقل قبل آلاف السنين.
- تُصنّف "تمازيغت" ضمن عائلة اللغات الأفروآسيوية، وهي عائلة ضخمة تشمل أيضاً اللغات السامية (كالعربية والعبرية) واللغة المصرية القديمة.
- هذا التشابه اللغوي القديم جداً هو ما دفع المؤرخين القدماء للخلط بينه وبين هجرة حديثة، وهو خطأ شائع.
لماذا سادت رواية "الأصل المشرقي"؟
إذا كانت الأدلة العلمية واضحة، فلماذا انتشرت نظرية الأصل المشرقي (الكنعانية أو اليمنية)؟
هذه الرواية كانت الأكثر شيوعاً عند المؤرخين العرب في العصور الوسطى (مثل ابن خلدون، الذي ذكرها كإحدى الروايات المتداولة). يمكن تفسير ذلك بأنه في عصر ما قبل علم الجينات، كان المؤرخون يحاولون ربط الشعوب المجهولة لديهم بالأحداث الكبرى المذكورة في التاريخ (مثل حروب الكنعانيين) أو بالأنساب العظيمة (مثل أنساب حمير في اليمن) كنوع من التفسير الثقافي والسياسي، وليس كتأريخ جيني دقيق.
أما النظريات التي ظهرت في الفترة الاستعمارية وحاولت ربط الأمازيغ بأوروبا (مثل الوندال)، فكانت ذات أهداف سياسية واضحة لربط سكان شمال إفريقيا بأوروبا وفصلهم عن محيطهم، وهي مرفوضة علمياً بشكل قاطع.
الأمازيغ.. جذور أصيلة في أرض شمال إفريقيا
في ضوء الأدلة العلمية الدامغة، من الواضح أن الأمازيغ هم السكان الأصليون والأصلاء لشمال إفريقيا.
إنهم أحفاد المجموعات البشرية التي استقرت في هذه المنطقة منذ العصر الحجري القديم، وتطورت جينياً (تحت العلامة E-M81) وثقافياً (في الحضارة القبصية) ولغوياً (بلغة تمازيغت) داخلها على مدى عشرات آلاف السنين. إن الروايات التاريخية حول الأصل المشرقي، رغم أهميتها الثقافية، إلا أنها لا تمثل الأصل الجيني الأول، بل قد تعكس، في أحسن الأحوال، تواصلاً ثقافياً قديماً بين ضفتي المتوسط والبحر الأحمر.