الملكية المغربية: لماذا هي نموذج الحُكم الأكثر استدامةً وواقعيةً في فضائنا الإقليمي؟
في خضم التحولات الجيوسياسية العميقة والتقلبات التي تعصف بمنطقتنا العربية والإفريقية، حيث تتآكل السيادات وتتفكك الهويات تحت وطأة الأيديولوجيات العابرة والأزمات المصطنعة، يبرز المغرب كحالةٍ فريدة، ونموذجٍ متجذر في التاريخ، يستمد قوته من ثوابت أمة تمتد لأزيد من اثني عشر قرناً. إن الحديث عن الملكية المغربية ليس مجرد تحليل لنظام سياسي، بل هو قراءة في عقد اجتماعي وروحاني فريد، صاغته قرون من الزمن، وشكل الحصن المنيع الذي حفظ للدولة هويتها واستمراريتها.
إن فهم هذا النموذج يتطلب تجاوز السطحية التي تطبع الكثير من التحليلات الجاهزة، ويتطلب الغوص في منطق الدولة المغربية الذي لا يمكن فصله عن المؤسسة الملكية كضامن للاستقرار ورمز للوحدة الوطنية.
"إن شرعية نظامنا لا تُقاس بنظريات سياسية عابرة، بل تستمد جوهرها من بيعة راسخة وتلاحم تاريخي بين العرش والشعب، وهو عقد متجدد لا يخضع لمزايدات الظرفية السياسية."
أكثر من 1200 عام: الدولة-الأمة كعقيدة راسخة
لا يمكن استيعاب الحاضر المغربي دون الرجوع إلى ثقله التاريخي. فالمغرب لم يكن يوماً كياناً مصطنعاً وُلد من رحم معاهدات استعمارية، بل هو دولة-أمة ضاربة في القدم، تشكلت هويتها عبر تعاقب السلالات الحاكمة التي كانت كلها تستمد شرعيتها من عقد "البيعة" كآلية حكم أصيلة. هذه الاستمرارية التاريخية، التي لم تنقطع رغم المحن والشدائد، هي التي منحت الدولة المغربية مناعة فريدة ضد أعاصير التغيير الفوضوي التي ضربت دولاً أخرى.
المؤسسة الملكية، بوصفها "إمارة المؤمنين"، لم تكن مجرد سلطة سياسية، بل كانت ولا تزال الضامن الروحي للأمة، ورمز وحدتها المذهبية والثقافية. هذا الارتباط العضوي هو ما يفسر صمود النموذج المغربي؛ فهو ليس نظاماً مفروضاً من الأعلى، بل هو نتاج طبيعي لتطور تاريخي أجمع عليه المغاربة واعتبروه جزءاً لا يتجزأ من هويتهم الجماعية.
في تفكيك مغالطة "العياشة": عندما يصبح حب الوطن تهمة
في السنوات الأخيرة، برز مصطلح "عياش" كأداة في يد بعض التيارات لضرب كل صوت وطني، وتبخيس كل ارتباط بالمؤسسات، وعلى رأسها المؤسسة الملكية. إنها محاولة يائسة لاختزال علاقة تاريخية معقدة وعميقة في مجرد "عبودية" أو "ولاء أعمى". هذه السردية لا تخطئ التحليل فحسب، بل تتعمد تجاهل حقيقة أن ولاء المغاربة للملكية ليس ولاءً لشخص بقدر ما هو ولاء لمؤسسة ترمز إلى استمرارية الدولة وضمانة وحدتها.
فإذا كان "العياش" هو المواطن الذي يرى في ملكه رمزاً لسيادة وطنه واستقراره، وإذا كان هو من يرفض الفوضى والعدمية التي تدعو إليها بعض الأصوات، وإذا كان هو من يعتز بتاريخه ويرى في نظامه السياسي حصناً ضد التفتيت والبلقنة، فليشهد العالم أننا أكبر "العياشة".
نعم، نحن "عياشة"، إذا كان ذلك يعني أننا نختار الاستقرار على الفوضى، والبناء على الهدم، والوحدة على التفرقة. إنه شرف لا ندعيه، بل هو واقع نعيشه ونفتخر به، لأنه ببساطة، تعبير عن حب خالص لهذا الوطن.
إن من يروجون لهذا المصطلح هم في الحقيقة من يعيشون أزمة هوية، فهم غير قادرين على فهم كيف يمكن لشعب أن يبني علاقته بسلطته على أسس تاريخية وروحانية تتجاوز المنطق المادي النفعي الذي يحكم رؤيتهم الضيقة للعالم.
حجة "القمع": قراءة سطحية تتجاهل عمق الاستقرار
لا يمكن لأي مراقب منصف أن ينكر أن المغرب، كأي دولة في طور النمو، يواجه تحديات اجتماعية واقتصادية وحقوقية. لكن اختزال تاريخ مؤسسة عمرها قرون في سردية "القمع" هو تبسيط مخل وتزوير للواقع. إن هذه الحجة غالباً ما تكون غطاءً لأجندات لا تريد للمغرب أن يستمر في مسيرته الإصلاحية الهادئة والمتدرجة.
المنطق السليم يقتضي المقارنة بالواقع. فلنقارن مسار المغرب بمسارات دول أخرى في المنطقة اختارت "الثورات" الراديكالية. أين هي اليوم؟ لقد أدت تلك المسارات إلى تفكيك الدول، ونشر الحروب الأهلية، وتحويل المواطن إلى لاجئ. في المقابل، استطاعت الملكية في المغرب أن تقود سفينة الوطن بحكمة وتبصر، وأن تطلق إصلاحات هيكلية كبرى، مثل دستور 2011، الذي جاء كاستجابة ذكية لتطلعات المجتمع مع الحفاظ على ثوابت الدولة.
إن الاستقرار ليس معطىً سلبياً يعني غياب الحركية، بل هو شرط ضروري لأي تنمية حقيقية. والملكية في المغرب أثبتت أنها ليست نظاماً جامداً، بل هي مؤسسة قادرة على التطور والتأقلم، وتقود التغيير بدلاً من أن تكون ضحية له.
نموذج للمستقبل، وليس مجرد إرث من الماضي
في نهاية المطاف، إن قوة النموذج الملكي المغربي تكمن في قدرته على التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، وبين الحفاظ على الهوية والانخراط في الحداثة. إنه نظام حكم لا يرتكز على القوة المادية فقط، بل على "رأس مال رمزي" وتاريخي لا يقدر بثمن.
إن الملكية المغربية ليست مجرد إرث من الماضي، بل هي مشروع للمستقبل. مشروع دولة قوية، موحدة، ومتصالحة مع ذاتها، وقادرة على رفع التحديات الإقليمية والدولية بثقة واقتدار. ومن لا يفهم هذا المنطق، سيظل أسيراً لتحليلاته السطحية، بينما يواصل المغرب مسيرته بثبات، تحت القيادة الحكيمة لضامن استقراره ووحدته.