في لحظة مفصلية تتشابك فيها التحديات الوطنية مع المتغيرات الدولية، جاء الخطاب الملكي السامي الذي ألقاه جلالة الملك محمد السادس، نصره الله، بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثالثة من الولاية الحادية عشرة، ليرسم خارطة طريق واضحة المعالم، ويحدد الأولويات الوطنية ببوصلة تجمع بين الحزم والأمل.
لم يكن الخطاب مجرد استعراض للإنجازات، بل كان رؤية استشرافية وتوجيهاً مباشراً للسلطتين التشريعية والتنفيذية، ولكافة المغاربة، من أجل بناء مغرب أكثر صلابة وقدرة على مواجهة المستقبل. دعونا في "اجي تسمع" نتعمق في تحليل أبرز الرسائل التي حملها هذا الخطاب التاريخي.
1. أولوية السيادة المائية والأمن الطاقي
أكد جلالة الملك بشكل حاسم على أن إشكالية تدبير الموارد المائية قد وصلت إلى مستوى حرج. لم يعد الأمر مجرد تحدٍ بيئي، بل قضية سيادة وطنية تتطلب تحركاً عاجلاً وغير تقليدي. دعا الخطاب إلى ضرورة تسريع وتيرة إنجاز المشاريع المبرمجة، من سدود ومحطات لتحلية مياه البحر، وربط بين الأحواض المائية، مع التأكيد على أهمية تغيير سلوك المواطنين والمؤسسات تجاه استهلاك الماء.
إن وضعية الموارد المائية تتطلب منا المزيد من الجدية واليقظة، وتقتضي تغييرًا حقيقيًا في عقليتنا وسلوكنا تجاه الماء.
هذه النقطة تعكس رؤية ملكية بعيدة المدى، تضع الأمن المائي والغذائي في صلب النموذج التنموي الجديد، وتعتبره ركيزة أساسية للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
2. الاستثمار المنتج: قاطرة التنمية وخلق الفرص
شكل موضوع الاستثمار المنتج محوراً رئيسياً في الخطاب. حيث شدد جلالته على ضرورة تفعيل "ميثاق الاستثمار" الجديد وتجاوز العقبات الإدارية التي تعرقل المبادرة الخاصة. الرسالة كانت واضحة: المغرب يحتاج إلى استثمارات تخلق قيمة مضافة حقيقية وتوفر فرص عمل لائقة للشباب.
- دعوة للقطاع البنكي: توجيه مباشر للأبناك من أجل تمويل أكثر جرأة للمقاولات الشابة وحاملي المشاريع.
- دور المراكز الجهوية للاستثمار: تفعيل دورها كمحفز للاستثمار وتسهيل المساطر الإدارية أمام المستثمرين.
- تشجيع "صنع في المغرب": التأكيد على أهمية دعم المنتجات والصناعات الوطنية لتقليل الاعتماد على الخارج وتعزيز السيادة الاقتصادية.
3. ورش الدولة الاجتماعية: كرامة المواطن أولاً
جدد الخطاب الملكي التأكيد على الالتزام الراسخ باستكمال الأوراش الكبرى للدولة الاجتماعية، وعلى رأسها تعميم الحماية الاجتماعية. إن توفير تغطية صحية شاملة، وتعويضات عائلية، وتوسيع قاعدة المستفيدين من أنظمة التقاعد، ليس مجرد إصلاحات تقنية، بل هو أساس بناء عقد اجتماعي جديد يقوم على التضامن والعدالة الاجتماعية.
"هدفنا الأسمى هو تحصين المواطن المغربي وضمان كرامته،" هذه العبارة تلخص فلسفة هذا الورش الضخم الذي يعتبر ثورة اجتماعية هادئة يقودها جلالة الملك.
4. الجدية والمسؤولية: نداء لكل المغاربة
لعل الكلمة المفتاح التي تكررت وحملت دلالات عميقة هي "الجدية". دعا جلالة الملك إلى ضرورة التحلي بالجدية في العمل السياسي والإداري، وفي سلوك المواطنين. هي دعوة لنبذ العبثية والسطحية، والتحلي بروح المسؤولية الوطنية في هذه المرحلة الدقيقة. الجدية في تطبيق الإصلاحات، والجدية في الدفاع عن مصالح الوطن، والجدية في أداء كل فرد لواجباته من موقعه.
نظرة نحو المستقبل
في الختام، يمكن القول إن الخطاب الملكي لم يكن مجرد خطاب مناسباتي، بل وثيقة عمل استراتيجية للسنوات القادمة. إنه يضع الجميع، حكومةً وبرلماناً ومواطنين، أمام مسؤولياتهم التاريخية. مرحلة جديدة تتطلب عملاً دؤوباً، وتضحية، وروحاً وطنية عالية لتحويل التحديات إلى فرص، وتحقيق الطموحات التي يستحقها المغرب والمغاربة.