يُمثل عهد الملك الراحل الحسن الثاني، الذي امتد من عام 1961 إلى عام 1999، حقبة مفصلية في تاريخ المغرب المعاصر. إنها فترة اتسمت بتعقيدات جيوسياسية داخلية وخارجية، تطلبت إدارة دقيقة للأزمات المتلاحقة، وفي الوقت نفسه، إرساء البنى التحتية والمؤسسية للدولة المغربية الحديثة.
يتناول هذا التقرير بالتحليل أبرز التحديات التي واجهت الملك الحسن الثاني، والقرارات الاستراتيجية التي شكلت مسار المغرب خلال أربعة عقود.
التحدي الأولي: ترسيخ السيادة وإدارة التركات الاستعمارية
عند تولي الملك الحسن الثاني العرش في 3 مارس 1961، عقب وفاة والده الملك محمد الخامس، كان المغرب دولة حديثة العهد بالاستقلال (1956). كانت الدولة لا تزال في طور بناء هياكلها الإدارية والعسكرية والاقتصادية، وتواجه تركة استعمارية ثقيلة لم تُحسم بالكامل.
ملف الوحدة الترابية: جبهات متعددة
كان ملف استكمال الوحدة الترابية على رأس أولويات الحكم. لم تقتصر القضية على الأراضي التي لا تزال تحت السيادة الإسبانية (الصحراء الغربية، سيدي إفني، سبتة، مليلية)، بل شملت أيضاً إشكالية الحدود الشرقية. تركت الإدارة الفرنسية، عند خروجها، ترسيم حدود ملتبساً بين المغرب والجزائر، لا يتطابق مع الحقائق التاريخية والروابط القبلية، مما خلق بؤرة توتر دائمة.
وجد الملك الشاب نفسه أمام معضلة استراتيجية: هل يتم تركيز الجهد الدبلوماسي والعسكري لاسترجاع الأراضي جنوباً وغرباً من إسبانيا، أم شرقاً من الجزائر التي كانت تدعمها قوى إقليمية ودولية؟
حرب الرمال (1963): المواجهة الشرقية
في أكتوبر 1963، تحولت التوترات الحدودية مع الجزائر المستقلة حديثاً إلى مواجهة عسكرية مفتوحة فيما عُرف بـ "حرب الرمال". كان النزاع حول منطقتي تندوف وبشار. ورغم أن القوات المسلحة الملكية المغربية حققت تقدماً ميدانياً، إلا أن الحرب انتهت بوساطة من منظمة الوحدة الأفريقية والجامعة العربية، وعادت الأمور إلى ما يشبه "الوضع الراهن" (Status Quo) دون حسم نهائي للترسيم، مما أبقى الملف مفتوحاً لعقود.
أزمة الاستقرار الداخلي: "سنوات الرصاص" ومحاولات الانقلاب
لم تقتصر التحديات على الخارج، بل واجه النظام في العقد الأول من السبعينيات أخطر أزمة وجودية منذ الاستقلال. في فترة زمنية متقاربة، تعرض الملك الحسن الثاني لمحاولتي انقلاب عسكريتين هددتا بنية النظام الملكي بأكمله:
- محاولة انقلاب الصخيرات (10 يوليو 1971): خلال احتفال بالقصر الملكي بالصخيرات، قاد المقدم أمحمد أعبابو، بدعم من الجنرال محمد المدبوح، هجوماً مسلحاً شارك فيه آلاف التلاميذ العسكريين. كان الهدف هو تصفية الملك والنخبة السياسية والعسكرية. نجا الملك الحسن الثاني بأعجوبة بعد ساعات من الفوضى وإطلاق النار الكثيف.
- محاولة انقلاب أوفقير أو "الطائرة الملكية" (16 أغسطس 1972): بعد عام واحد فقط، دبر الجنرال محمد أوفقير، الذي كان يُعتبر الذراع الأيمن للملك ووزير الدفاع، محاولة انقلاب ثانية. أثناء عودة الملك من فرنسا، هاجمت طائرات مقاتلة من طراز F-5 تابعة للقوات الجوية الملكية طائرته البوينغ 727. في حادثة شهيرة، استطاع الملك ربان الطائرة (محمد القباج) إيهام المهاجمين بأن الملك قد قُتل، مما سمح بهبوط اضطراري آمن في مطار الرباط-سلا.
هاتان المحاولتان، اللتان فصلت بينهما 13 شهراً فقط، أدخلتا المغرب فيما عُرف لاحقاً بـ "سنوات الرصاص"، وهي فترة اتسمت بالتشدد الأمني، وقبضة الدولة القوية، وقمع المعارضة السياسية، بهدف ضمان استقرار النظام ومنع أي تحدٍ لسلطة الدولة المركزية.
الخطاب الملكي والنهج السياسي: بين الحزم والتعبئة
تميز الملك الحسن الثاني، كما تشير السجلات الأرشيفية، بقدرة خطابية عالية وكاريزما قوية. لم تكن خطاباته موجهة للداخل فقط، بل كانت أداة دبلوماسية بحد ذاتها. استخدم التلفزة المغربية بفاعلية للتواصل المباشر مع الشعب، مفاجئاً المراقبين بقرارات حاسمة.
تراوحت نبرة خطاباته بين النقد اللاذع أحياناً، والشكر والامتنان أحياناً أخرى، ولكنه كان يهدف دائماً إلى إظهار سلطة وهيبة الدولة. لعل أبرز مثال على هذا النهج هو خطابه التاريخي في 16 أكتوبر 1975.
الإنجاز الاستراتيجي: المسيرة الخضراء (1975)
تُعد المسيرة الخضراء، التي انطلقت في 6 نوفمبر 1975، الحدث الأبرز في فترة حكم الحسن الثاني، وتجسيداً لما وُصف بـ "الدهاء السياسي". بعد صدور رأي استشاري من محكمة العدل الدولية بلاهاي، أعلن الملك عن تنظيم مسيرة سلمية ضخمة.
كان قراراً استراتيجياً فاجأ العالم، حيث تم حشد 350,000 مواطن مغربي، مسلحين بالقرآن الكريم والأعلام المغربية، لعبور الحدود نحو الصحراء التي كانت لا تزال تحت الإدارة الإسبانية. شكلت المسيرة ضغطاً هائلاً على مدريد، وأدت مباشرة إلى توقيع "اتفاقيات مدريد" الثلاثية (بين المغرب، إسبانيا، وموريتانيا) في 14 نوفمبر 1975، والتي أنهت الوجود الإسباني في الإقليم.
"...وما كُنّا لنرضى أن نطلب من 350 ألف مغربي ومغربية أن يذهبوا إلى الموت، وإنما نطلب منهم أن يذهبوا في مسيرة سلمية... وإذا اقتضى الحال، ومشى في المسيرة 350 ألف، سأكون أنا في الصف الأول..." (مقتطف من خطاب إعلان المسيرة الخضراء).
الإرث: ترسيخ المؤسسات وبناء الأسس
يرى العديد من المحللين أن فترة حكم الحسن الثاني، رغم وصفها بـ "الصعبة" نظراً للظروف الأمنية والسياسية، كانت فترة "تأسيسية" بامتياز. الظروف الاستثنائية فرضت أسلوب حكم استثنائي، لكنها تزامنت مع بناء الدولة.
في عهده، تم وضع الأسس الكبرى للبنية التحتية للمملكة، notably "سياسة السدود" التي هدفت لتحقيق الأمن المائي والغذائي. كما تم ترسيخ النظام الملكي الدستوري، وإنشاء المؤسسات الديمقراطية (البرلمان، التعددية الحزبية المقيدة)، وتثبيت موقع المغرب كلاعب دبلوماسي وازن في أفريقيا والعالم العربي، ووسيط معترف به في ملفات إقليمية معقدة كالصراع العربي الإسرائيلي.
تقييم مرحلة التأسيس
عند وفاة الملك الحسن الثاني في 23 يوليو 1999، كان قد نجح في تحويل دولة هشة خارجة من الاستعمار، ومحاطة بالتهديدات الداخلية والخارجية، إلى دولة مستقرة ذات مؤسسات راسخة وهيبة إقليمية. لقد كانت فترة حكمه، بلا شك، من أصعب الفترات في تاريخ المغرب، لكنها أرست خارطة طريق استراتيجية للأمن والاستقرار، والتي شكلت الأساس الذي انطلق منه المغرب الحديث في عهد خلفه، الملك محمد السادس.
مصادر ومراجع (للاستزادة):
- أرشيف الخطب الملكية للملك الحسن الثاني.
- تحليلات تاريخية حول فترة ما بعد الاستعمار في شمال أفريقيا.
- دراسات حول محاولات انقلاب 1971 و 1972.
- وثائق الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية بخصوص ملف الصحراء الغربية (1975).